محمد الحسيني
تذكر مرويات التاريخ اللبناني أن السلطان العثماني سليم الأول، وبعد انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق في العام 1516، عيّن الأمير فخر الدين حاكمًا على إمارة الشوف ولاحقًا على جبل لبنان خلفًا لوالده عثمان، والذي ورثها بدوره عن أبيه؛ ومنحه لقب "سلطان البر" مقابل مبايعته والولاء والخضوع لسلطة الباب العالي.
تركّزت مهمته على تثبيت حكم العثمانيين وجباية الضرائب وقمع أي حركة تطالب بالاستقلال. ولكن عندما عمل فخر الدين على توسيع دائرة نفوذه وتواصل مع الأوروبيين خروجًا عن طاعة السلطان العثماني؛ أرسل الأخير من يقتـ.ـله في العام 1544، وآل الحكم لابنه قرقماز الذي قُتل بدوره على يد والي مصر إبراهيم باشا في العام 1584 بعد أن اتهمه أمير طرابلس وعكار يوسف سيفًا وأمير البقاع ابن فريخ بحادثة سرقة قافلة تحمل خراج مصر وفلسـ.ـطين التي كانت متجهة إلى إسطنبول، فانتقل الحكم لابنه الأمير فخر الدين الثاني.
استفاد الحاكم الجديد في البداية من تجارب الحكام الذين سبقوه؛ فعمل وفقًا لتوجيهات الباب العالي بكل إخلاص، واستطاع توحيد إمارات "الساحل الشامي". وقيل عنه إنه "مؤسس لبنان الحديث". وما لبث الوالي الطموح أن وقع في خطأ أسلافه؛ ففتح خطوط الاتصال مع إيطاليا (توسكانا) ومع أسبانيا القوية آنذاك تحت مظلة التجارة، وأغدق الأوروبيون مساعداتهم فانعكس ازدهارًا اقتصاديًا في لبنان والمحيط.
لكن في الواقع أن الدول الأوروبية كانت تسعى من وراء ذلك إلى استعادة نفوذها في الشرق، والذي زال بانتهاء الحروب الصليبية، فرأت في فخر الدين جسرًا مناسبًا لهذه العودة؛ فعقدت معه تحالفًا قضى بمدّه بالمال والسـ.لاح ومنحه امتيازات خاصة؛ فضلًا عن تحصيل براءة من البابا بولس الخامس يأمر فيها موارنة لبنان أن يقفوا معه في الحروب ضد العثمانيين. وبالفعل انقلب فخر الدين على "الباب العالي" بتحريض من الأوروبيين، وخاض معركة ضد الجيش العثماني في العام 1623 بالقرب من مجدل عنجر، وانتهت بانتصاره وأسر والي دمشق مصطفى باشا. واستطاع بذلك أن يوسّع نطاق حكمه من حلب إلى العريش شمال سيناء، ولم يدم هذا الحكم أكثر من عشر سنوات؛ حين جنّد السلطان مراد الرابع حملة عسـ.ـكر ية ضخمة ألقت القبض على فخر الدين واقتادته إلى إسطنبول؛ حيث أُعدم.
تلك كانت حقبة من تاريخ لبنان التي تكرّرت على مدى السنوات اللاحقة، وما تزال تتكرّر بأوجه مختلفة. ولو أحسنّا الظن بوجود دوافع وطنية "استقلالية" أخذت بفخر الدين للارتماء في الحضن الأوروبي، إلا أن سير الوقائع والنتائج لم تأخذ بلبنان إلى الاستقلال بقدر ما جعلته رقعة جغرافية قابلة للاحتـ.ـلال. إذ إن الأوروبي الذي ترك فخر الدين يقاتل وحده مع جيشه الخليط من اللبنانيين والمرتزقة عاد وفرض احتـ.ـلاله على سوريا ولبنان وفلسـ.ـطين، بعد أن نجح في إسقاط حكم السلطنة وطردها من المنطقة، فانتقل لبنان من حكم الولاة العثمانيين إلى حكم المندوب السامي الفرنسي، وبعدها إلى حكم المتصرّفية الذي يحمل ما يحمل من إهانة وإذلال للبنانيين بذريعة عدم أهليتهم للحكم وحاجتهم للخضوع إلى تجارب إدارية تأهيلية ليحكموا أنفسهم بأنفسهم. وهذه الذريعة مستمرة حتى اليوم؛ وما يزال لبنان ومنذ الإعلان عن استقلاله الملتبس يخضع للوصاية الخارجية.
قيل حوالي الأسبوع؛ جاءت إلى بيروت المندوبة السامية الجمهورية مورغان أورتاغوس خلفًا لسلفها المندوب السامي الديمقراطي آموس هوكستين - كلاهما يجاهران بانتمائهما الصهـــيونـ.ـي وتأييدهما لـ"إسرائيل" – وجالت على الرؤساء اللبنانيين، وفي جيدها نجمة داوود جهرًا وخفية، فيما استدعت مجموعة من الوزراء والنواب السياديين وآخرين من "الناشطين السياسيين" إلى السفارة الأمريكية في عوكر، و"توّجت" جولتها بـ "الوالي" سمير جعجع في معراب في لقاء خصّص لإجراء جردة بالتحرّكات السابقة واستعراض للتحركات المقبلة في سياق الأجندة المعلنة وغير المعلنة، لقد كرّرت أورتاغوس مطالب إدارتها المجنونة التي تشعل سعار الفوضى والحـ.ـرب التجارية في العالم، لتكرّس الاحتـ.ـلال الأمريكي للبنان وتفرض الشروط "الإسرائيلية"؛ ضاربة بعرض الحائط الأعراف الدبلوماسية كلّها من دون أدنى احترام للسيادة اللبنانية.
لاقت مندوبة ترامب ردًا رسميًا لبنانيًا موحّدًا وواضحًا عبّر عنه الرؤساء الثلاثة. وفي أبرز مضامينه رفض المسعى الأمريكي لإثارة الفوضى وضرب الاستقرار في الداخل اللبناني، من خلال الإصرار على نزع سـ.لاح المـ.ـقاومة. وفي هذا المطلب خرق مباشر للقرار 1701، يضاف إلى الخروقات "الإسرائيلية" المستمرة، سواء بإبقاء احتـ.ـلالها للنقاط الخمس داخل الأراضي اللبنانية أم بالاعتـ.ـداءات التي تطال المواطنين اللبنانيين في مناطق الجنوب وفي قلب الضاحية الجنوبية. كما لم يستثنِ الاحتـ.ـلال في عــ.ـدوانه مراكز الجيش اللبناني وجنوده المنتشرين في قرى الجنوب أو حتى قوات "اليونيفيل"، على أن التغاضي المقصود للجنة المراقبة الدولية المرؤوسة أمريكيًا عن هذه الممارسات الإجرامية هو ما يشجّع الـ.ـعـ.ـدو على التمادي في عــ.ـدوانه، ما استلزم موقفًا صارمًا من قيا دة حـ.ـزب الله على لسان الأمين العام لحـ.ـزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم. ومفاده أن المـ.ـقاومة ما تزال تلتزم بتعهداتها باحترام تطبيق القرار 1701، ولكن هذا الأمر لن يدوم طويلًا في حال عجزت الدولة اللبنانية عن ردع الـ.ـعـ.ـدو بالوسائل الدبلوماسية، أما ما يحكى عن نزع سـ.لاح المـ.ـقاومة فهو خارج النقاش، ونقطة على السطر.
في هذا السياق، يلفت مراقبون إلى أن التهويل الذي سبق زيارة مندوبة الاحتـ.ـلال الأمريكي أورتاغوس إلى بيروت يصب في خانة الضغط النفسي على البيئة اللبنانية بشكل عام، وعلى بيئة المـ.ـقاومة بشكل خاص، خصوصًا فيما يتعلق بربط السماح بإعادة إعمار ما هدمته الحـ.ـرب "الإسرائيلية" بنزع سـ.لاح المـ.ـقاومة. ويرجّح هؤلاء استمرار حملات الضغط هذه من زوايا مثلثة الأضلاع.
أولها: استمرار الاعتـ.ـداءات "الإسرائيلية" التي تهـ.ـدف إلى إرساء عدم الاستقرار وتكريس إسقاط معادلة الردع.
ثانيها: الإلحاح الأمريكي المباشر على أركان الدولة اللبنانية بتجاوز مفاعيل القرار 1701 باتجاه نزع سـ.لاح المـ.ـقاومة؛ بذريعة تمكين الجيش اللبناني من بسط سلطته على الأراضي اللبنانية.
ثالثها: النقيق الداخلي الذي تمارسه الأطراف الموجّهة أمريكيًا بهـ.ـدف إثارة الغبار وإبقاء البلد منقسمًا سياسيًا، تحت عناوين مذهبية وطائفية.
أمام هذا الواقع؛ يبقى الرهان على اللبنانيين الشرفاء الذين يؤكدون انتماءهم الوطني الحقيقي برفض الطروحات التي يطلقها من وقت إلى آخر بعض الداخل، وتردّد المقولات الأمريكية – "الإسرائيلية" التي تسوّق للتسوية مع الـ.ـعـ.ـدو من قبيل التطبيع أو قبول التعايش السلمي مع "إسرائيل".
كذلك الرهان على بيئة المـ.ـقاومة التي تثبت، يومًا بعد يومًا وبعد كل اعتـ.ـداء "إسرائيلي"، تمسّكها بسـ.لاح المـ.ـقاومة خيارًا أكيدًا لمواجهة الـ.ـعـ.ـدوان وتحرير الأرض والأسرى واسترجاع الحقوق.
لعلّ أكثر ما يضحك أن ينبري البعض لتسويغ جرائم الاحتـ.ـلال بأنها رد فعل على وجود المـ.ـقاومة وسـ.لاحها!! وكأنّ هؤلاء يسوّغون للقاتل ارتكاب جريمته، ويطالبون الضحية بالاستسلام وعدم المـ.ـقاومة حتى يمعن المجرم في ممارسة إرهـ..ـابه.. وعلى هؤلاء أن يقرأوا التاريخ القريب جيدًا، من فخر الدين وما قبله وبعده إلى يومنا هذا، كي لا تستمر مأساة لبنان من احتـ.ـلال لاحتـ.ـلال، فلا سيادة في ظل الاحتـ.ـلال.